سورة هود - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس، أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين، والقبول أتمّ، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} قرأ ابن كثيرة، وأبو عمرو، والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر: أي أرسلناه بأنى: أي أرسلناه متلبساً بذلك الكلام، وهو أني لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول: أي قائلاً إني لكم، والواو في {ولقد} للابتداء، واللام هي الموطئة للقسم، واقتصر على النذارة دون البشارة، لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار، أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به، وجملة {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بدل من إني لكم نذير مبين: أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله، أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا، أو بنذير، أو بمبين، وجملة: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليلية. والمعنى: نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار، واليوم الأليم: هو يوم القيامة، أو يوم الطوفان؛ ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة.
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه، وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوّته من ثلاث جهات، فقال: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قومِهِ} والملأ: الأشراف، كما تقدم غير مرة، ووصفهم بالكفر ذماً لهم، وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوّته: أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوّة دوننا، والجهة الثانية: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} ولم يتبعك أحد من الأشراف، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك. والأراذل: جمع أرذل، وأرذل جمع رذل، مثل: أكالب وأكلب وكلب. وقيل: الأراذل جمع الأرذل، كالأساود جمع أسود، وهم: السفلة. قال النحاس: الأراذل: الفقراء والذين لا حسب لهم، والحسب: الصناعات. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة.
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه، قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. والظاهر من كلام أهل اللغة: أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية ف {بشرا} في الأوّل، و{اتبعك} في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال، وانتصاب {بادي الرأي} على الظرفية، والعامل فيه {اتبعك}.
والمعنى: في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال بدا يبدو: إذا ظهر. قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. والوجه الثالث: من جهات قدحهم في نبوّته {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} خاطبوه في الوجهين الأولين، منفرداً وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي: ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به، وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرّد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية، والحسد، واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، فقالوا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فيما تدّعونه، ويجوز أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم، والأوّل: أولى؛ لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم، فقال: {قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} أي: أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوّة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها، مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة، فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوّة، واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوّة، فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم، فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} هي: النبوّة، وقيل: الرحمة: المعجزة، والبينة: النبوّة. قيل: ويجوز أن تكون الرحمة هي: البينة نفسها، والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت البينة، والإفراد في {فَعُمّيَتْ} على إرادة كل واحدة منهما، أو على إرادة البينة، لأنها هي التي تظهر لمن تفكر، وتخفى على من لم يتفكر، ومعنى عميت: خفيت؛ وقيل: الرحمة هي على الخلق، وقيل: هي الهداية إلى معرفة البرهان، وقيل: الإيمان، يقال عميت عن كذا، وعمي عليّ كذا: إذا لم أفهمه. قيل وهو من باب القلب، لأن البينة أو الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة رأسي. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص {فعميت} بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول: أي فعماها الله عليكم، وفي قراءة أبيّ {فعماها عليكم} والاستفهام في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} للإنكار: أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها، والحال أنكم {لها كارهون} والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي إلا أنها خافية عليكم أيمكنننا أن نضطركم إلى العلم بها، والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ.
وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في {أنلزمكموها} تخفيفاً كما في قول الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل
فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف.
وقد قرأ أبو عمرو كذلك.
قوله: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يكون بذلك محلاً للتهمة، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادّعى ما ادعى طلباً للدنيا، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم، فيما قبل هذا. وقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} كالجواب عما يفهم من قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه. وقيل: إنهم سألوه طردهم تصريحاً لا تلميحاً، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} أي: لا أطردهم، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم؛ ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه، والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال: {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم. ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله: {وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} أي: من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم، لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة، ولو وقع ذلك منهم فرضاً وتقديراً لكان فيه من الظلم مالا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس. وقوله: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} معطوف على مقدّر؛ كأنه قيل: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر، أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره، وتتفكرون فيه، حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وما هم عليه من الصواب.
قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئاً من أموالهم على تبليغ الرسالة، كذلك لا يدّعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه، كما قالوا: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} والمراد بخزائن الله: خزائن رزقه {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي: ولا أدّعي أني أعلم بغيب الله، بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم {وَلا أَقُولُ} لكم {إِنّى مَلَكٌ} تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا.
وقد استدلّ بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست مما كلفنا الله بعلمه {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقر، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه: إذا عابه، وزري عليه: إذا احتقره، وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه *** خليلته وينهره الصغير
والمعنى: إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه؛ فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرّهم احتقاركم لهم شيئاً {الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ} من الإيمان به، والإخلاص له، فمجازيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء {إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين} لهم إن فعلت ما تريدونه بهم، أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم، ثم جاوبوه بغير ما تقدّم من كلامهم وكلامه عجزاً عن القيام بالحجة، وقصوراً عن رتبة المناظرة، وانقطاعاً عن المباراة بقولهم: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي: خاصمتنا بأنواع الخصام، ودفعتنا بكل حجة لها مدخل في المقام، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال، فقد ضاقت علينا المسالك، وانسدّت أبواب الحيل {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب الذي تخوّفنا منه، وتخافه علينا {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقوله لنا، فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته، و{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة.
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} الذي أبذله لكم، وأستكثر منه قياماً مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} وجواب هذا الشرط محذوف، والتقدير: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، كما يدل عليه ما قبله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: إن كان الله يريد إغواءكم، فلا ينفعكم النصح مني، فكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأوّل، وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدّم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه، فجزاء الشرط الأوّل، {ولا ينفعكم نصحي} وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها. قال ابن جرير: معنى {يغويكم} يهلككم بعذابه، وظاهر لغة العرب أن الإغواء: الإضلال؛ فمعنى الآية: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد، ويخذلكم عن طريق الحق.
وحكى عن طيّ: أصبح فلان غاوياً: أي مريضاً، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية.
وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك، ومنه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] وهو غير ما في هذه الآية {هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء وإليه الهداية {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} قال: فيما ظهر لنا.
وأخرج أبو الشيخ، عن عطاء، مثله.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} قال: قد عرفتها وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِه} قال: الإسلام الهدى والإيمان، والحكم والنبوّة.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قال: أما والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون}.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال في قراءة أبيّ: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبيّ بن كعب، أنه قرأ: {أنلزمكموها من شطر قلوبنا}.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء، وفي قوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} قال: فيسألهم عن أعمالهم {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها، لا أعطيكم بملكه لي عليها {وَلا أَعْلَمُ الغيب} لا أقول: اتبعوني على علمي بالغيب {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ}. قال: حقرتموهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} قال: يعني: إيماناً.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} قال: تكذيباً بالعذاب، وأنه باطل.


قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أنكر سبحانه عليهم قولهم: إن ما أوحى إلى نوح مفترى، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} ثم أمره أن يجيب بكلام متصف، فقال: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} بكسر الهمزة على قراءة الجمهور، مصدر أجرم: أي فعل ما يوجب الإثم، وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس، والمعنى: فعليّ إثمي، أو جزاء كسبي. ومن قرأ بفتح الهمزة، قال: هو جمع جرم ذكره النحاس أيضاً {وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ} أي: من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إليّ من الافتراء، قيل: وفي الكلام حذف والتقدير: لكن ما افتريته، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم، وأنا بريء منه.
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل: إنها حكاية عن نوح، وما قاله لقومه، وقيل: هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة. والأوّل: أولى؛ لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام.
قوله: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمن} {أنه لن يؤمن} في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسمّ. ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء: أي بأنه، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم، وأنهم مستمرّون على كفرهم، مصممون عليه، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} البؤس: الحزن، أي فلا تحزن، والبائس: المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين؛ لأن الابتئاس حزن في استكانة. ومنه قول الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رُزِئته *** فلم أبتئس والرزءُ فيه جليلُ
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه، وخلاص من آمن معه، فقال: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي: اعمل السفينة متلبساً بأعيننا: أي بمرأى منا، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلهة الرؤية، والرؤية هي: التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير. وقيل المعنى: {بِأَعْيُنِنَا} أي: بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك. وقيل: {بِأَعْيُنِنَا} بعلمنا. وقيل: بأمرنا. ومعنى بوحينا: بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ} أي: لا تطلب إمهالهم، فقد حان وقت الانتقام منهم، وجملة {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} للتعليل: أي: لا تطلب منا إمهالهم، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق، وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره. وقيل: المعنى: ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم، فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك، لا يتأخر إغراقهم عنه. وقيل المراد بالذين ظلموا: امرأته وابنه.
{وَيَصْنَعُ الفلك} أي: وطفق يصنع الفلك، أو وأخذ يصنع الفلك. وقيل: هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة، وجملة: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} في محل نصب على الحال: أي استهزءوا به لعمله السفينة. قال الأخفش والكسائي: يقال سخرت به ومنه. وفي وجه سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة، فيقولون يا نوح صرت بعد النبوّة نجاراً. والثاني: أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قال: أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله، وسخروا به. ثم أجاب عليهم بقوله: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ والمعنى: إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم، فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق. ومعنى السخرية هنا: الاستجهال، أي: إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده، والتشبيه في قوله: {كَمَا تَسْخَرُونَ} لمجرد التحقق والوقوع، أو التجدّد والتكرّر، والمعنى: إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك. وقيل معناه: نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق، وفيه نظر، فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية، إذ هم في شغل شاغل عنها.
ثم هدّدهم بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وهو عذاب الغرق في الدنيا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وهو عذاب النار الدائم، ومعنى يحلّ: يجعل المؤجل حالاً، مأخوذ من حلول الدين المؤجل، و{من} موصولة في محل نصب، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع: أي أينا يأتيه عذاب يخزيه. وقيل: في موضع رفع بالابتداء، و{يأتيه} الخبر، و{يخزيه} صفة لعذاب. قال الكسائي: إن ناساً من أهل الحجاز يقولون: {سوف تعلمون}؛ قال: ومن قال: {ستعلمون} أسقط الواو والفاء جميعاً، وجوّز الكوفيون {سف تعلمون} ومنعه البصريون، والمراد بعذاب الخزي: العذاب الذي يخزي صاحبه، ويحل عليه العار.
قوله: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} {حتى} هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية، وجعلت غاية لقوله: {واصنع الفلك بأعيننا}. والتنور: اختلف في تفسيرها على أقوال: الأوّل: أنها وجه الأرض، والعرب تسمى وجه الأرض تنوراً، روي ذلك عن ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه، وبه قال مجاهد وعطية والحسن، وروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن. الرابع: أنه طلوع الفجر، من قولهم تنّور الفجر، روي عن عليّ بن أبي طالب.
الخامس: أنه مسجد الكوفة، روي عن عليّ أيضاً ومجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنّور بالكوفة. السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة، قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة، روي ذلك عن عكرمة. الثامن: أنه موضع بالهند. قال ابن عباس: كان تنور آدم بالهند. قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض، قال: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 11، 12] فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. هكذا قال، وفيه نظر، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء. إلا إذا كان المراد مجرد العلامة، كما ذكره آخراً.
وقد ذكر أهل اللغة أن الفور: الغليان، والتنور: اسم عجمي عرّبته العرب. وقيل: معنى فار التنور: التمثيل بحضور العذاب كقولهم: حَمي الوطيس: إذا اشتدّ الحرب، ومنه قول الشاعر:
تركتم قدركم لا شيء فيها *** وقِدرُ القوم حامية تفورُ
يريد: الحرب.
قوله: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي: قلنا: يا نوح، احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكراً وأثنى. وقرأ حفص: {من كلّ} بتنوين كل: أي: من كل شيء زوجين، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، ويطلق على كل واحد منهما زوج، كما يقال للرجال زوج، وللمرأة زوج، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد، ويطلق الزوج على الضرب والصنف، ومثله قوله تعالى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، ومثله قول الأعشى:
وكل ضرب من الديباج يلبسه *** أبو حذافة مخبوّ بذاك معا
أراد كل صنف من الديباج {وَأَهْلَكَ} عطف على {زوجين} أو على اثنين على قراءة حفص، وعلى محل كل زوجين، فإنه في محلّ نصب ب {احمل} أو على {اثنين} على قراءة الجمهور، والمراد: امرأته وبنوه ونساؤهم {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} أي: من تقدّم الحكم عليه بأنه من المغرقين، في قوله: {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} على الاختلاف السابق فيهم، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة {احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ} ومن قال: المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أمّ كنعان جعل الاستثناء من أهلك، ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعمّ من المسلم والكافر منهم، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط، قوله: {وَمَنْ ءامَنَ} معطوف على {أهلك}: أي: واحمل في السفينة من آمن من قومك، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم، أو للاستثناء منهم على القول الآخر. ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به، فقال: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قيل: هم ثمانون إنساناً: منهم ثلاثة من بنيه، وهو سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين، وهي موجودة بناحية الموصل.
وقيل: كانوا عشرة. وقيل: سبعة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين. وقيل: غير ذلك.
قوله: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} القائل: نوح، وقيل: الله سبحانه. والأوّل: أولى، لقوله: {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} والركوب: العلوّ على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة، أو مجازاً نحو ركبه الدين، وفي الكلام حذف: أي: اركبوا الماء في السفينة، فلا يرد أن ركب يتعدّى بنفسه؛ وقيل إن الفائدة في زيادة {في} أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها. وقيل: إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك} [العنكبوت: 65]، وقوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة} [الكهف: 71] قيل: ولعلّ نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج، كأنه قيل: فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين، ويمكن أن يقال إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات، أو يكون هذا على طريقة التغليب. قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} متعلق ب {اركبوا} أو حال من فاعله: أي مسمين الله، أو قائلين: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضمّ الميم فيهما إلا من شدّ منهم على أنهما اسما زمان، وهما: في موضع نصب على الظرفية: أي وقت مجراها ومرساها، ويجوز أن يكونا مصدرين: أي: وقت إجرائها وإرسائها. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص {مجراها} بفتح الميم، و{مرساها} بضمها، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها فيهما. وقرأ مجاهد، وسليمان بن جندب، وعاصم الجحدري، وأبو رجاء العطاردي {مجريها ومرسيها} على أنهما وصفان لله، ويجوز أن يكونا في موضع رفع باضمار مبتدأ: أي هو مجريها ومرسيها {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ} للذنوب {رَّحِيمٌ} بعباده، ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني، وعدم استئصاله بالغرق.
قوله: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كالجبال} هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير: فركبوا مسمين، وهي تجرى بهم، والموج: جمع موجة، وهي: ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض. قوله: {ونادى نُوحٌ ابنه} هو: كنعان، قيل: وكان كافراً، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، وأجيب بأنه كان منافقاً، فظن نوح أنه مؤمن. وقيل: حملته شفقة الأبوّة على ذلك. وقيل: إنه كان ابن امرأته، ولم يكن بابنه، ويؤيده ما روي أن علياً قرأ: {ونادى نوح ابنها}.
وقيل: إنه كان لغير رشدة، وولد على فراش نوح. وردّ بأن قوله: {ونادى نُوحٌ ابنه} وقوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة {وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} أي: في مكان عزل فيه نفسه عن قومه، وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح: اركبوا فيها، وقيل: في معزل من دين أبيه، وقيل: من السفينة. قيل: وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق، بل كان في أوّل فور التنور.
قوله: {مَعْزِلٍ يابنى اركب مَّعَنَا} قرأ عاصم بفتح الياء، والباقون بكسرها، فأما الكسر فلجعله بدلاً من ياء الإضافة، لأن الأصل يا بنيّ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه. قال النحاس: وقراءة عاصم مشكلة.
وقال أبو حاتم: أصله يا بنياه ثم تحذف، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين، وللكسر وجهين. أما الفتح بالوجه الأوّل ما ذكرناه، والوجه الثاني: أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين. وأما الكسر، فالوجه الأوّل ما ذكرناه، والثاني: أن تحذف لالتقاء الساكنين، كذا حكى عنه النحاس. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وحفص {اركب مَّعَنَا} بادغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج. وقرأ الباقون بعدم الإدغام {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} نهاه عن الكون مع الكافرين: أي خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم.
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال: {قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} أي: يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ، فأجاب عنه نوح بقوله: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} أي: لا مانع، فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أوّلياً، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره. والاستثناء قال الزجاج: هو منقطع: أي: لكن من رحمه الله فهو يعصمه، فيكون: {مَن رَّحِمَ} في موضع نصب، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن يكون عاصم بمعنى معصوم: أي: لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله: مثل: {مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 6] {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ومنه قول الشاعر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي: المطعم المكسوّ، واختار هذا الوجه ابن جرير؛ وقيل: العاصم بمعنى ذي العصمة، كلابن وتامر، والتقدير: لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله، وهو السفينة، وحينئذ فلا يرد ما يقال: إن معنى من رحم من رحمه الله، ومن رحمه الله هو معصوم، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال.
وقرئ: {إلا من رحم} على البناء للمفعول {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} أي: حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق. وقيل: بين ابن نوح، وبين الجبل، والأوّل: أولى، لأن تفرّع {فَكَانَ مِنَ المغرقين} عليه يدل على الأوّل لا على الثاني، لأن الجبل ليس بعاصم.
قوله: {وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ} يقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع، وبلع يبلع، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء: والبلع: الشرب، ومنه البالوعة، وهي: الموضع الذي يشرب الماء، والازدراد، يقال: بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج {وياسماء أَقْلِعِى} الإقلاع: الإمساك، يقال: أقلع المطر: إذا انقطع. والمعنى: أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها {وَغِيضَ الماء} أي: نقص، يقال: غاض الماء وغضته أنا {وَقُضِىَ الأمر} أي: أحكم وفرغ منه: يعني: أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام {واستوت عَلَى الجودى} أي: استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، وهو جبل بقرب الموصل؛ وقيل: إن الجودي: اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به *** وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
ويقال: إنه من جبال الجنة، فلذا استوت عليه {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} القائل: هو الله سبحانه، ليناسب صدر الآية. وقيل: هو نوح وأصحابه. والمعنى: وقيل هلاكاً للقوم الظالمين، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله: {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ}.
وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة، الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في علم اللغة، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب، وأشعار بواقع شعرائهم، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها.
وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم، فأطالوا وأطابوا، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} قال عملي {وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ} أي: مما تعملون.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} وذلك حين دعا عليهم نوح قال: {لا تَذَكَّرَ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26].
وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم، فدعا عليهم.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} قال: فلا تحزن.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عنه، في قوله: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} قال: بعين الله ووحيه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضاً قال: لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعملها سفينة، ويمرّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه، ويقولون: يعمل سفينة في البرّ، وكيف تجري؟ قال: سوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور، وكثر الماء في السكك خشيته أمّ الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أمّ الصبيّ» وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم.
وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث، وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} قال: هو: الغرق {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} قال: هو الخلود في النار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه، قال: كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة، وكان فار التنور بالهند، وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أيضاً قال: التنور: العين التي بالجزيرة عين الوردة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، قال: فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة.
وقد روي عنه نحو هذا من طرق.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: التنور: وجه الأرض، قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك. والعرب تسمى وجه الأرض تنور الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عليّ {وَفَارَ التنور} قال: طلع الفجر، قيل له: إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك.
وقد روي في تفسير التنور غير هذا، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك.
وروي في صفة القصة، وما حمله نوح في السفينة، وكيف كان الغرق، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة، لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} قال حين يركبون ويجرون ويرسون.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: كان إذا أراد أن ترسي قال: بسم الله، فأرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت.
وأخرج أبو يعلى، والطبراني، وابن السني، وابن عديّ، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن بن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن، بسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم، {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر الآية [الزمر: 67]» وأخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، عن النبيّ.
وأخرجه أيضاً أبو الشيخ، عنه، مرفوعاً من طريق أخرى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في قوله: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إلا مَن رَّحِمَ} قال: لا ناج إلا أهل السفينة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن القاسم بن أبي برّة، في قوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} قال: بين ابن نوح والجبل.
وأخرج ابن المنذر، وعن عكرمة في قوله: {ياأرض ابلعى} قال: هو بالحبشية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه، في {ابلعي} قال بالحبشية: أي ازدرديه.
وأخرج أبو الشيخ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: معناه: اشربي، بلغة الهند.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس مثله. أقول: وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب: ظاهر مكشوف، فما لنا وللحبشة والهند.


معنى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} دعاه، والمراد: أراد دعاءه، بدليل الفاء في: {فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} وعطف الشيء على نفسه غير سائغ، فلا بدّ من التقدير المذكور، ومعنى قوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك: وأهلك. فإن قيل: كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله: {وَأَهْلَكَ} وهو المستثنى منه، وترك ما يفيده الاستثناء، وهو: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول}؟ فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول، فإنه كان يظنه من المؤمنين {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} الذي لا خلف فيه، وهذا منه {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي: أتقن المتقنين لما يكون به الحكم، فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل: أراد ب {أحكم الحاكمين} أعلمهم وأعدلهم: أي: أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم. وقيل: إن الحاكم بمعنى: ذي الحكمة كدارع.
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل، وأنه خارج بقيد الاستثناء فقال: {يا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين آمنوا بك، وتابعوك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة؛ ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين، لا قرابة النسب، وحده، فقال: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} قرأ الجمهور: {عمل} على لفظ المصدر. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكسائي، ويعقوب، {عمل} على لفظ الفعل؛ ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه، كأنه جعل نفس العمل، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل، كذا قال الزجاج وغيره. ومعنى القراءة الثانية ظاهر: أي إنه عمل عملاً غير صالح، وهو: كفره وتركه لمتابعة أبيه؛ ثم نهاه عن مثل هذا السؤال، فقال: {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرّع على ذلك النهي عن السؤال، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال، لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أوّلياً، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع، وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي: أحذرك أن تكون من الجاهلين، كقوله: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} [النور: 17] وقيل: المعنى: أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين.
ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه، بادر إلى الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة، فقال: {رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي: أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه، {وإلا تَغْفِرْ لِى} ذنب ما دعوت به على غير علم مني {وَتَرْحَمْنِى} برحمتك التي وسعت كل شيء، فتقبل توبتي {أَكُن مّنَ الخاسرين} في أعمالي، فلا أربح فيها.
القائل: هو الله، أو الملائكة {قِيلَ يانوح اهبط} أي: انزل من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض، فقد بلعت الأرض ماءها، وجفت {بسلام مّنَّا} أي: بسلامة وأمن، وقيل: بتحية {وبركات} أي: نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل، وهو ثبوته، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} أي: ناشئة ممن معك، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة. وقيل: أراد من في السفينة، فإنهم أمم مختلفة، وأنواع من الحيوانات متباينة. قيل: أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمناً من ذريتهم، وأراد بقوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} من صار كافراً من ذريتهم إلى يوم القيامة، وارتفاع أمم في قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: ومنهم أمم. وقيل: على تقدير: ويكون أمم.
وقال الأخفش: هو كما تقول: كلمت زيداً وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة {وأمماً سنمتعهم}: أي: ونمتع أمماً، ومعنى الآية: وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع، ونعطيهم منها ما يعيشون به، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم. وقيل: يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة.
والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى قصة نوح، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار {مِنْ أَنبَاء الغيب} من جنس أنباء الغيب، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر، أي من أخبار الغيب التي مرّت بك في هذه السورة، والضمير في {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} راجع إلى القصة، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة {مَا كُنتُ} يا محمد {تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ} يعلمها {قَوْمِكَ} بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي، أو من قبل هذا الوقت {فاصبر} على ما تلاقيه من كفار زمانك، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها {إِنَّ العاقبة} المحمودة في الدنيا والآخرة {لّلْمُتَّقِينَ} لله المؤمنين بما جاءت به رسله، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر، ولا اعتبار بمباديه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: نادى نوح ربه فقال: ربّ إن ابني من أهلي، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي، وإن ابني من أهلي.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: ما بغت امرأة نبيّ قط. وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} يقول: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: إن نساء الأنبياء لا يزنين، وكان يقرؤها {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} يقول: مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {يانوح اهبط بسلام مّنَّا} قال: أهبطوا والله عنهم راض.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي، قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} يعني: ممن لم يولد، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} يعني: متاع الحياة الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
وأخرج أبو الشيخ قال: ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} يعني: العرب {مّن قَبْلِ هذا} القرآن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5